تحقيق لأجيال.. اللّعــــــــــــــب داخـــــــــــــــل الصنــــــــــــدوق

تحقيق لأجيال.. اللّعــــــــــــــب داخـــــــــــــــل الصنــــــــــــدوق

10 يوليو، 2019 - 09:07pm

فراس الطويل ومحمد الرجوب- بينما كانت الحكومة السابعة عشرة برئاسة رامي الحمد الله تحزم أمتعتها للمغادرة بداية نيسان الماضي؛ لم يتوقف سيل القرارات الإدارية استباقا لتولي الوزارة الجديدة مهامها. بعض تلك القرارات طال الصندوق الفلسطيني لتعويض مصابي حوادث الطرق، ليخلق تضاربا للمصالح، عندما أُسندتْ مهمة الإشراف على تسيير الأعمال اليومية في الصندوق للأمين العام لاتحاد شركات التأمين لمدة 80 يوما. عمل الصندوق الذي تبلغ موجوداته قرابة 100 مليون دولار دون نظام مالي أو إداري يضبط أداءه.

يتكون المورد المالي الأساسي للصندوق من نسبة مئوية حددتها هيئة سوق رأس المال، وتبلغ 15% من رسوم التأمين الإلزامي على كل وثيقة تأمين تصدر عن الشركات في فلسطين. هذه النسبة لم تخضع لأي تقييم أو مراجعة منذ تأسيس الهيئة عام 2004، رغم أن هناك فائضا ماليا في أرصدة الصندوق كون الإيرادات تعادل ضعف النفقات تقريبا.

ولم تكن التعديلات التشريعية المتتالية على البنود المتعلقة بصندوق التعويض في قانون التأمين الفلسطيني، منعزلة عن حالة عامة. فوسط غياب البرلمان وتغييب المشاركة المجتمعية عن الصناعة التشريعية، أحصت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، صدور تشريع جديد، أو تعديل على قانون سارٍ كل تسعة أيام بالمعدّل، خلال عام 2018. ومن بين ركام "فوضى التشريع"، خرج هذا التحقيق.

نص قانون التأمين الفلسطيني على وجود صندوق مهمته تعويض ضحايا حوادث الطرق في الحالات التي لا تغطيها شركات التأمين. ونظرا للمهام المتعارضة بين صندوق التعويض والشركات، تنظر المحاكم الفلسطينية في عشرات النزاعات القضائية بين الطرفين حول المسؤولية عن التعويض. الأمر الذي دفعنا للتحقيق في ظروف تولي ممثل عن هذه الشركات مهمة الإشراف على عمل الصندوق في الفترة الممتدة ما بين 11 نيسان 2019 و1 تموز 2019. وخلال هذه الفترة أتيحت لممثل شركات التأمين في مجلس الإدارة فرصة الاطلاع على قضايا مالية وفنية، ولوائح الدعاوى القضائية، واللوائح الجوابية، في مطالبات موجهة من مصابي حوادث ضد الصندوق وشركات التأمين في الوقت نفسه.

وبينما ينفي رئيس الاتحاد الفلسطيني لشركات التأمين أنور الشنطي علمه بظروف تعيين أمين عام الاتحاد نسرين الحنبلي رئيسا للجنة تسيير أعمال صندوق التعويض، وجد فريق التحقيق، أن الأمر كان تتويجا لسلسلة من القرارات والتعديلات التشريعية التي تكشف الوثائق أن رئيس الوزراء السابق رامي الحمد الله، أصرّ على تشريعها رغم أن موقفَ مستشاريه كان مغايرا، وتمثل بما يلي حرفياًّ:

"نرى بأن كثرة التعديلات على ذات النصوص القانونية وفي فترات زمنية متقاربة جدا، يؤدي إلى عدم استقرار المراكز القانونية وزعزعة عمل الصندوق، خاصة مع انتفاء حالة الضرورة التي تشترطها المادة 43 من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003، وهذا أيضا يتعارض مع أصول الصياغة التشريعية". مع الإشارة إلى أن البنود الناظمة لعمل الصندوق في قانون التأمين الفلسطيني خضعت لتعديلات متتالية في فترات متقاربة.

تُظهِر وثيقة أخرى، أنّ فريد غنام وكيل وزارة المالية، الذي يشغل -بحكم وظيفته- رئاسة مجلس إدارة صندوق التعويض، طلب من جهة غير مختصة، وهي الأمانة العامة لمجلس الوزراء، تفسير التشريع الناظم لتعيين مدير عام الصندوق، علما أن مهمة تفسير التشريعات محصورة بالمحكمة الدستورية بموجب المادة 103 من القانون الاساسي وتعديلاته، والمادة (30) من قانون المحكمة الدستورية.

ورغم أن الأمانة العامة سبق وأن تحفظّت بشدة على إجراء أي تعديلات قانونية جديدة، إلا أنّها تعدت على صلاحيات المحكمة الدستورية، وقدمت تفسريا تشريعيا مهّدَ لإنهاء خدمات مدير عام صندوق التعويض وضاح الخطيب، ومن ثم تكليف أمين عام اتحاد شركات التأمين نسرين الحنبلي بالإشراف على لجنة تسيير الأعمال.

وفي معرِض ردّها على أسئلة مُعديّ التحقيق حول التناقضات والتجاوزات أعلاه، أقرت الأمانة العامة لمجلس الوزراء (في الحكومة الحالية)، أنها ليست الجهة المختصة بتفسير التشريعات، وجاء في كتاب الرّد:

"الأمانة العامة بإمكانها أن تقدم رأيا قانونيا حيال الممارسات القانونية لأي جهة، مع العلم أن هذا الرأي غير ملزم، بل يمكن الاستئناس به". في إشارة إلى أن التفسير الذي تلقاه رئيس مجلس إدارة صندوق تعويض مصابي حوادث الطرق فريد غنام لم يكن ملزما، بحيث يتحمل المجلس ورئيسُه مسؤولية القرارت المتخذة بناء على الرأي القانونيّ.

تبين أن المخالفة القانونية التي شابت طلب التفسير، والاستجابة له، كانت تمهد لتغيير جوهري يطال الإدارة التنفيذية للصندوق. ففي نفس اليوم الذي تلقى فيه غنام التفسير التشريعي من الأمانة العامة، تداعى مجلس إدارته على عجل لاجتماع طارئ، تقرر فيه: "توجيه رسالة إلى وزارة العمل، عملا بأحكام قانون العمل بشأن إعادة هيكلة الصندوق وإنهاء عقد مديره العام باعتباره استحقاقا قانونيا، وتوجيه رسالة لرئيس هيئة سوق رأس المال نبيل قسيس لإعارة أحد كوادر الهيئة بهدف تسيير أعمال الصندوق لحين تعيين مدير عام حسب الأصول". وبالفعل تم إنهاء عقد مدير عام الصندوق وضاح الخطيب في تاريخ 11 نيسان 2019. لكن رئيس مجلس الإدارة فريد غنام لم يلتزم بالقرار الآخر بانتداب أحد كوادر هيئة سوق رأس المال لإدارة صندوق التعويض، وعيّن نسرين الحنبلي لهذه المهمة وهي ممثلة عن شركات التأمين في مجلس إدارة الصندوق.

تشغل الحنبلي عضوية مجلس إدارة الصندوق الفلسطيني لتعويض مصابي حوادث الطرق، إذ نص القانون على أن يرأس المجلس وكيل وزارة المالية، وعضوية كل من: موظف من الفئة العليا في وزارة الاقتصاد، ومدير عام التأمين في هيئة سوق رأس المال، وأحد خبراء التأمين تُعيّنه الهيئة، بالإضافة إلى أمين عام الاتحاد الفلسطيني لشركات التأمين.

وإلى جانب احتفاظها بمنصب الأمين العام لاتحاد شركات التأمين، بقيت الحنبلي تمارس مهامها في صندوق التعويض لمدة 80 يوماً، وهي الفترة التي تم خلالها إنهاء عقد عمل المدير السابق وضاح الخطيب، وتعيين مدير جديد هو لؤي الحواش، ما يعني أن رئيس مجلس الإدارة فريد غنام تجاهل لمدة تزيد عن شهرين، التحذير الموجه له من قبل مساعد مدير عام الصندوق، مدير الدائرة القانونية فيه نفين أبو عيد، بتاريخ 23 نيسان 2019، وجاء فيه: "إن تشكيل لجنة تسيير الأعمال بإشراف اتحاد شركات التأمين، على عمل الصندوق والتعليمات الصادرة للجهاز التنفيذي في الصندوق، وعدم استشارة الدائرة القانونية، وتوجيهات مجلس الإدارة هي إجراءات مخالفة للقانون، وتتعارض مع مصالح الصندوق، وستؤدي إلى إلحاق أشد الضرر به ماليا وإداريا وبصلب عمله". وأضافت مُخاطِبة غنام: “أضعُ الأمر أمام مسؤولياتكم، وأخلي مسؤوليتي تجاه تحميل الصندوق أعباء مالية ستكون ناتجة عما ذكر أعلاه وستؤدي حتما لأضرار لكل جوانب عمل الصندوق".

تجنب غنام إجراء مقابلة صحفية لتفسير قراره بتعيين الحنبلي خصيصا دون غيرها، خلافا لتوصية مجلس الإدارة بانتداب أحد كوادر هيئة سوق رأس المال، ما اضطرنا لتوجيه رسالة تضمنت مجموعة من الأسئلة عبر البريد الالكتروني والفاكس وتطبيقات التراسُل. ورغم تحديد مواعيد للمقابلة أكثر من مرة، بواسطة أحد كبار الموظفين في وزارة المالية بعد عدة أسابيع على توجيه الرسالة، إلا أن التهرّب كان سيد الموقف، ما ولّد قناعة لدينا أن السيد غنام لا يريد الرد.

عيّن مجلس الإدارة بتاريخ 1 تموز 2019 لؤي الحواش، مديرا عاما، بعد إجراء مسابقة لتعيين مدير عام للصندوق عقب إنهاء عقد المدير السابق الذي قام بدوره بالطعن أمام محكمة العدل العليا. وفي اليوم ذاته نشر مجلس الإدارة بيانين في صفحة الصندوق على موقع "فيسبوك". هاجم البيان الأول، المدير السابق وضاح الخطيب الذي شغل المنصب لخمسة أعوام. وجاء في النص: "يستغرب مجلس الإدارة تصرفات المدير العام السابق لتشويه الصندوق والقائمين عليه وشركائه من خلال كيل الاتهامات والخوض في حوارات غايتها خلق قضية رأي عام ضد الصندوق، ضارباً بعرض الحائط أصول ومبادىء العمل ومعرضاً الصندوق لمخاطر ناهيك عن زعزعة ثقة المستفيدين من خدماته من جهة وزعزعة ثقة شركائه من جهة اخرى". أما البيان الثاني فتضمن إعلانا عن تعيين المدير العام الجديد.

يبلغ إجمالي موجودات الصندوق قرابة 100 مليون دولار، على شكل ودائع في البنوك وعقارات. ويصل معدل إيرادات الصندوق السنوية من حصصه التي يتوجب على الشركات تحويلها 10 ملايين دولار تقريبا، بالإضافة إلى إيرادات أخرى منها؛ الفوائد على ودائع الصندوق في البنوك، بحسب بيانات مالية صادرة عن مدقق خارجي لحسابات الصندوق.

حدد قانون التأمين رقم (20) لسنة 2005، المهام الرئيسة للصندوق الفلسطيني لتعويض مصابي حوادث الطرق، بتعويض مصابي الحوادث في حالات عدم وجودة وثيقة تأمين لدى السائق مرتكب الحادث، أو قيادة المركبة بلا رخصة، وحدد القانون الحالات التي يتوجب على الصندوق تعويض المصابين فيها، في حين تتولى الشركات مهمة التعويض في حال وقوع حوادث مع حملة وثائق التأمين الصادرة عنها.

ويحصل الصندوق على إيرادته من خلال حصة نص عليها القانون، وتبلغ 15% من قيمة وثيقة التأمين على المخاطر الجسدية، ويجب أن تلتزم الشركات بتحويل هذه الحصة إلى الصندوق خلال 40 يوما من دفع المؤَمِن رسوم البوليصة للشركة.

وتفيد البيانات ذاتها، بأن الصندوق كان يعاني من عجز مالي قبل عام 2013، إلّا أنه حقق قفزات متتالية في معدلات السيولة لديه، وهو ما عزاه رئيس إتحاد شركات التأمين أنور الشنطي، إلى تقصير الصندوق في الوفاء بالتزاماته التعويضية بموجب القانون. وبالرجوع إلى البيانات المالية للصندوق وجدنا أنه صرف ما معدله 85 مليون شيقل خلال السنوات الخمس الماضية، كتعويضات للمستحقين بما يشمل الإدعاءات تحت التسوية، ومصاريف تشغيلية واستهلاكية أخرى.

تكشف معطيات هذا التحقيق أن الوفرة المالية لدى صندوق التعويض لم تلفت انتباه جهات الاختصاص للتخفيف عن كاهل المواطن الذي يعدّ المصدرَ الوحيدَ لتلك الأموال من خلال المساهمة بنسبة 15% عن كل وثيقة تأمين إلزامي يدفعها.

وفي الوقت الذي حَمّل فيه المشرع الفلسطيني الخزينة العامة مسؤولية تغطية أي عجز في ميزانية الصندوق، إلا أنه أغفل آلية التصرّف بالفائض المالي في حال توفرّه. واقع سمح لصراعات أخذت في بعض الأحيان طابعا شخصيا، بالتزامن مع تداخل في الصلاحيات وفوضى تشريعية. محصلة ذلك أن المواطن يجد نفسه مضطرا في أحيان كثيرة للذهاب إلى القضاء والانتظار لسنوات حتى يأخذ حقه بالتعويض سواءٌ من الصندوق أو من شركات التأمين، فالعدالة المتأخرة هي عدالة ناقصة.